الجامعة الإسلامية .. شامة في منجزات الوطن

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن من المؤسف حقا أن يتحقق في أيامنا هذه ما شكاه أبو العلاء؛ فقد قيل للشمس أنت ضئيلة! وقيل للصبح لونك حائل!

لقد تذكرت أبياته الذائعة تلك وأنا أقرأ مقالا لأحدهم (علي الموسى، الوطن "3383") ريّش فيه سهامه وأشرعها نحو الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة؛ حيث غمزها بضعف المخرجات؛ وتملكه الأسى على نصف قرن من البعثات الطلابية والتي لم تمنحنا سفيرا واحدا على الخريطة الإسلامية يستحق الذكر في الوقوف مع رسالة بلادنا في كل الأزمات العصيبة التي مرت بها! وتساءل بحرقة: "فهلا تتبرعون لي باسم واحد من خريجي هذه الجامعة المتواجدين [هكذا] في كل أصقاع الأرض كي نحكم على المنتج؟" ثم قال: "فأين كان أي من خريجي هذه الجامعة، ومن هو الذي دافع أو كتب أو تظاهر وفاء للدَّين الذي كان عليه على الأقل من منحة دراسية".

هكذا تتضاءل مخرجات الجامعة في نظر هذا الكاتب؛ وهكذا يُحكم على نصف قرن من العطاء بأنه كلا شيء .. حقا إنها مأساة!

من حق أي قارئ أن يسأل الكاتب عن مستنده في هذا الحكم الصادر بلغة واثقة، وعن كونه مؤهلا للخوض في هذا الموضوع أصلا؛ فهل هو معني بشئون خريجي الجامعة؟ فمن يعرف منهم؟ وكم عدد الذين التقاهم فرأى منهم الجفاء والعقوق للبلاد التي احتضنتهم وعلمتهم؟ وهل قام باستقراء لأحوالهم -وعددهم يزيد على ثلاثين ألفا، ينتمون لأكثر من مائة وثمانين دولة!- ورصد المنابر الإعلامية العالمية حتى وصل إلى هذا الحكم الجائر؟!

يا باري القوس بريا لست تحسنه ..... لا تفسدنها، وأعط القوس باريها

نصف من قرن من الزمان أو يزيد وهذه الجامعة العملاقة تواصل تخريج الدعاة وطلاب العلم، ولتكون منارا للعلم، وصرحا للمعرفة ينهل منه الشرق والغرب، ومفخرة للوطن تفخر به على سائر الأقطار الإسلامية؛ وحُق لها ذلك؛ فإنني أجزم أنه ليس ثمة تأثير على خريطة الدعوة الإسلامية في العالم يفوق تأثير الجامعة الإسلامية، واسألوا المنصفين.

إنها صمام أمان للدعوة، ومرتكز إسلامي بالغ التأثير والثقل، ولا أجد وصفا لها أصدق من وصف خادم الحرمين الشريفين الملك فهد رحمه الله -وهو الخبير بها- حين وصفها بـ"الجامعة القيادية" (الكتاب الوثائقي عن الجامعة 131).

 الجامعة الإسلامية .. هدية المملكة إلى المسلمين في أقطار الأرض؛ وحسنة من أعظم حسناتها، غرس أصلها الطيب الملك سعود رحمه الله، وتتابع إخوانه الأماجد -إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله وفقه الله- على سقيها ورعايتها، وأقر الله أعينهم والمسلمين برؤية ثمارها اليانعة وآثارها المباركة؛ فقد نشرت العلم الشرعي واللغة العربية في أرجاء المعمورة، وبثت منهج الاعتدال، وأرست دعائم للأخلاق والفضيلة. كل هذه المنجزات العظيمة -حجما وآثارا- قد طعن في خاصرتها ذاك الكاتب بجرة من قلمه!

إن الجامعة الإسلامية، نهر من المنجزات والعطاء متدفق، يشهد بذا كل منصف من داخل المملكة وخارجها، وهي -بحمد الله- غنية عن ثناء مثنٍ، ولن ينال منها انتقاص منتقص.

وما ضر الورود وما عليها ...... إذا المزكوم لم يطعم شذاها

قبل أن تطلب يا هذا أن نذكر لك اسم طالب واحد من بين آلاف الطلاب الذين تخرجوا في الجامعة؛ دعني أذكر لك ما هي الجامعة وما الهدف من إنشائها؛ إذ حديثك عنها -في أحسن أحواله- حديث الجاهل بها.

وإذا أردت الحكم على "المنتج" فليكن ذلك من خلال النظر في مدى تحقق الهدف الذي من أجله تأسس، وهذا ما لا ينازع عاقل فيه.

الجامعة الإسلامية مؤسسة إسلامية عالمية، وبنيانٌ تأسس -فيما نحسب- على تقوى من الله ورضوان، لها هدف عظيم ومقصد نبيل تم الإفصاح عنه في المرسوم الملكي الكريم الآمر بإنشائها؛ ألا وهو: "تثبيت دعائم الدين، والنهوض بالأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، والرغبة في إبلاغ الرسالة الإسلامية" (الكتاب الوثائقي 46). ونصت مادتها الأولى من نظامها الأساسي على هذه الغاية الجليلة: "الغرض منها تثقيف من يلتحق بها من طلاب العلم في المملكة العربية السعودية ومن البلاد الإسلامية ليتفقهوا في الدين، ويفقهوا العلوم الشرعية والعربية ... ليكونوا دعاة للدين وأنصارا للحق".

هذه هي الجامعة، وهذا الهدف من تأسيسها، وهو هدف سامٍ يبدو أنه غاب عن حسابات الكاتب.

لقد فاته أن المملكة حينما تفضلت على أبناء المسلمين باحتضانهم وتعليمهم لم تكن تنتظر منهم جزاء أو شكورا -وهكذا شأن الكرماء- ولم تكن تنتظر منهم دفع ثمن استضافتهم. إنها لم تكن ترجو إلا أن يكونوا حملة الإسلام النقي إلى العالم، وقد فعلوا ولله الحمد؛ أفليس هذا بِرّا بها؟ أليس هذا نشرا لرسالتها؟ أليس هذا تحقيقا لهدف إنشائها؛ ومن خلاله يمكن الحكم على "المنتج"؟

ومع ذا .. فإن أبناء الجامعة -وقد اجتنوا الأخلاق الفاضلة من مأرز الإيمان- كانوا أهل مروءة ووفاء؛ فقد حفظوا الجميل، وفاضت قلوبهم بمعاني الحب والولاء لهذا البلد الكريم، ولم يتخلوا عن نشر محاسنها والدفاع عنها قط؛ حتى كأنهم من بعض أهلها، وليس هذا ضربا من المجازفة كما هو حال الجاهل بها؛ بل واقعٌ معاشٌ مشاهد.

ويحسن أن أسجل صورة من صور الاعتراف بالفضل للملكة ولولاة أمورها، رسمها أحد أولئك الذين عرّض بهم الكاتب؛ ينقل هذه الصورة الملك فيصل رحمه الله حيث يقول: (... كنت مجتمعا في هذا اليوم مع فخامة رئيس الكمرون في جلسة رسمية، وكان المترجم الذي تولى الترجمة بيننا شاب وديع يبدو عليه هيئة الذكاء والتؤدة والوقار، وكان جيدا في اللغة العربية، فصيحا في النطق بها. وعندما تم اللقاء مع الوفد وهمّ بالخروج قلت: يا هذا إن لغتك العربية جيدة، وإن تعبيرك فصيح وسليم العبارة؛ فمن أين تعلمت اللغة؟ فقال لي بالحرف الواحد: يا جلالة الملك: إني وليد إحسانك بعد توفيق الله؛ فلقد تخرجت من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة؛ درست فيها المرحلة الثانوية ثم المرحلة الجامعية، وتخرجت من كلية الشريعة بحمد الله، ولن أنسى -ما عشت- هذا الفضل وهذا الإحسان، وأسأل الله عز وجل أن يمد في عمركم، ويزيد من توفيقكم، ويؤيدكم بنصره وتوفيقه) (الكتاب الوثائقي 89). إن ما قاله هذا الخريج هو لسان حال خريجي الجامعة أجمعين، وهذا ما يعرفه القاصي والداني.

وإذا لم تر الهلال فسلّم ...... لأناسٍ رأوه بالأبصار

إنني أقول -إن أردتُ أن أجاري الدكتور في المقياس الذي وضعه للحكم على مخرجات الجامعة-: اطمئن؛ "فالمنتج" يحقق أهدافه بما يثلج كل غيور على المملكة؛ إذ كل من يعرف حال خريجي الجامعة -وقد أربوا على ثلاثين ألفا- يدرك أنهم في الحقيقة سفراء غير معينين للملكة في أوطانهم .. لكن المشكلة أن الكاتب لا يعرف، ولم يكلف نفسه أن يتعرف!

بل أقول ما هو أبلغ من ذلك: ليس هناك جهة رسمية استطاعت أن تكوّن حملة إعلامية عالمية، تُعرّف بالمملكة وتدافع عنها كالجامعة الإسلامية؛ وذلك من خلال الآلاف من طلابها الذين يتوزعون على أكثر من مائة وثمانين قطرا، ويتكلمون بمئات اللغات واللهجات، ويتسنمون وظائف ذات أثر في مجتمعاتهم.

ليطمئن صاحب المقال أن خريجي الجامعة قبل أزمة الخليج وبعدها هم مع المملكة قلبا وقالبا، بل لو طُلبوا ليُجندوا دفاعا عنها فلن يترددوا البتة، يقول هذا من يعرف الجامعة وأبناءها حقا، -وأنا منهم-؛ أليس هذا منجزا وطنيا غاليا؟ ألا يحق لنا أن نحتفي بهؤلاء الأبناء البررة الذين حملوا معاني المحبة والوفاء الكبير للملكة؟

ألا يشفع لهم هذا الولاء ليتجاوز الكاتب عن خطئهم الوحيد؛ وهو أنهم لم يُعلموه بمواقفهم تجاه المملكة! ولم يراعوا غفلته عن واقعهم! فإذا كتب خريج منهم مقالا في صحيفة تصدر في أكرا ردا على من هاجم المملكة لتطبيقها الحدود، أو أجرى آخر مقابلة تلفازية في مكسيكو سيتي عن الأمن في المملكة، أو دافع ثالث في خطبته في جاكرتا عن فتوى العلماء بجواز الاستعانة بالقوات المشتركة إبان حرب الخليج .. فهم مقصرون لعدم إبلاغه! فليلتمس لهم عذرا!

وحتى لا يُظن أني أتجاوز الموضوعية وأكتب بعاطفة؛ أقول: دونك -يا هداك الله- سفارات المملكة في العالم، والملحقيات الدينية والثقافية التابعة لها؛ فليتك تتكرم بالاتصال بأي منها لتسأل عن خريجي الجامعة ومواقفهم ومدى تعاطفهم مع المحن التي تمر بها المملكة، ولتسأل أيضا عن مكاتباتهم الكثيرة التي تطلب المقررات الدراسية السعودية في المراحل التعليمية المختلفة؛ لرغبتهم في بث مناهج المملكة في معاهدهم، ولتسأل سؤالا ثالثا عن الدعاة الأبرز في تلك البلاد، والذين يُستعان بهم في تنفيذ برامج المملكة في الخارج شرعية أو ثقافية أو إغاثية، ويا حبذا لو عدت لزاويتك لتخبرنا النتيجة .. ولتصحح خطأك!

كما أنني أعرض عرضا على كل من يشكك في مخرجات الجامعة -هو أو غيره-؛ ألا وهو أن يعين أي دولة يختارها؛ من اليابان إلى الولايات المتحدة، ومن السويد إلى جنوب أفريقيا، ولا أستثني من هذا جزر المحيط الهندي كسيشل وموريشس، أو دول أمريكا اللاتينية كنيكاراجوا أو السلفادور، وأنا على استعداد أن أوقفه على منجزات خريجي الجامعة فيها، والمكاسب التي تحققت للملكة بسببهم، وإن أحب أن يزورها ليقف عن كثب على جهودهم، وليكون ضيفا كريما عليهم؛ فحبا وكرامة.

ختاما أقول: وفي تعب من يجحد الشمس ضوءها ....... ويجهد أن يأتي لها بمغيب.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.

د. صالح بن عبد العزيز بن عثمان سندي

عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية

 

عودة للمقالات